"السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك يا إلهي خاضعًا لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي متحليًا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين، ولم تُضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي، ولم تمتد يدي إلى مال غيري، لم أكن كاذبًا، ولم أكن لك عاصيًا، ولم أسعَ للإيقاع بعبد عند سيده. إني يا إلهي لم أُجِعْ ولم أُبْكِ أحدًا، وما قتلت وما غدرت، وما كنت محرضًا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئًا مقدسًا، ولم أغتصب مالًا حرامًا ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبِعْ قمحًا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئًا من الإثم، فاجعلني يا إلهي من الفائزين".
الكلمات السابقة لم تكن سوى جزء من تعاويذ وترانيم ونصوص تنقش على جدران المقابر والمسلات والبرديات -وعلى أقنعة المومياوات- لتصور لحظة البعث والحساب في المعتقدات المصرية القديمة، إذ يتم وزن قلب الشخص المتوفَّى أمام ريشة إلهة الحق "ماعت"، فإذا كان وزن قلبه أثقل من ريشة "ماعت" يكون من العاصين، ويُلقى به إلى وحش مفترس يلتهمه معلنًا تلك "النهاية الأبدية للميت"، أما إذا كان قلب الميت أقل وزنًا من تلك الريشة، فيكون مآله إلى الجنة، حيث النعيم الأبدي مع أحبابه.
وكانت دراسة أثرية نشرتها مؤخرًا دورية "جورنال أوف إيجيبشان أركيولوجي" Journal of Egyptian Archaeology، قد كشفت عن أقدم "كتاب موتى مصور" في مصر القديمة، ما يفتح الباب مجددًا لتسليط الضوء على أهمية هذه النصوص والكتب وأنواعها المختلفة ومدى تطورها.
مقابر دير البرشا
 وكانت الحفريات التي أُجريت عام 2012 في دير البرشا (تقع بمحافظة المنيا في صعيد مصر) قد أسفرت عن اكتشاف تابوت السيدة "عنخ"، وعلى الجانب الأسفل من التابوت الذي تعرَّض لتآكُل شديد، عثر الباحثون على ما يُعتقد أنه أول كتاب مصور في التاريخ في مصر القديمة يوضح الطريق إلى عالم الحساب والبعث عند الفراعنة، وقد يكون أقدم نسخة عُثِر عليها فيما يُعرف بكتاب "الطريقين".
وسُمِّي كتاب الطريقين بهذا الاسم بسبب تصوير الكتاب لطريقين يجتازهما المتوفى وصولًا إلى الجنة، هما طريق البر وطريق الماء، وهناك كتاب آخر يُعرف بكتاب "البوابات"، وجاءت تسميته بسبب تصوير الكتاب لبوابات يختارها المتوفى في العالم الآخر، ولا بد له من معرفة اسم الباب واسم الحارس حتى يتم العبور في سلام إلى حقول القرابين (سخت حتب)، أي الجنة.
فمنذ بدأ عالِم المصريات البلجيكي هاركو ويليامز، استكشاف بئر جنائزية في مقبرة أحد حكام الأشمونين في مقابر دير البرشا، وهو يشعر بأن النقوش التي وجدها على تابوت عُثِرَ عليه داخل المقبرة ذات أهمية، إذ تَبيَّن أنها بالفعل أجزاء من أقدم كتاب مصور في العالم عن الموت والحياة الأخرى.
يقول "ويليامز"، الذي يرأس البعثة الأثرية المصرية البلجيكية التابعة لجامعة لوفان البلجيكية التي تعمل في مقابر دير البرشا منذ عام 2002، ويُعَدُّ أحد أهم الخبراء في دراسة نصوص التوابيت: "إن هذا الكتاب، الذي يعود تاريخه إلى 4000 عام هو كتاب "الطريقين"، ويصور بالنقوش والخرائط طريق الروح إلى الحياة الأبدية، حيث تمر (وفق معتقدات المصري القديم) عبر طريقين، هما طريق البر وطريق الماء".
بداية القصة
بدأت القصة عندما شرع "ويليامز" وفريقه في استكشاف بئر جنائزية مهجورة منذ سنوات بعيدة في مقبرة "عحا نخت"، أحد حكام الأشمونين، وعلى عمق 20 مترًا داخل البئر، عثر الأثريون على بقايا تابوت لم تصل إليه أيدي السارقين بالرغم من تعرُّض المنطقة بأسرها لعمليات السرقة والنهب في أوقات سابقة. وعلى الرغم من أن نقوش اللوح تشير إلى الحاكم "عحا نخت"، إلا أن أبحاث "ويليامز" كشفت أن التابوت كان في الأصل يحمل رُفات امرأة تدعى "عنخ".
وكان التابوت المصنوع من خشب الأرز قد لحقت به أضرار بالغة بسبب نمو الفطريات بشدة عليه. وقد توصل الفريق الأثري من خلال تجميع الألواح الخشبية التي عُثر عليها في المقبرة، والتي تمثل أجزاءً من التابوت، وفحصها بدقة وقراءة النقوش المدونة عليها إلى اكتشاف مزيج من الحروف الهيروغليفية ورموز أخرى معروفة لدى المصريين القدماء. ويظهر في الألواح خطان متعرجان، يفصلان طريقين يمكن للموتى أن يستخدموهما للوصول إلى أوزوريس -إله الموتى عند المصري القديم- في الحياة الآخرة.
يوضح "ويليامز" أن التكنولوجيا الحديثة أسهمت بشكل كبير في اكتشاف ومعالجة الصور الموجودة على أجزاء التابوت، باستخدام برنامج aDStretch، وهو برنامج كمبيوتر قادر على إعادة الصور بطريقة عالية الدقة، ولهذا جرى الكشف عن نقوش ثمينة وأشكال مختلفة وكتابات هيروغليفية كانت عبارة عن علامات تلاشت تمامًا ولم تعد تُرى بالعين المجردة، وحتى ألوانها صارت باهتة يصعب تمييزها، لكن استخدام هذا البرنامج أتاح قراءتها والاطلاع على محتواها ودلالاتها.
آبار جنائزية
من جهته، يقول الأثري حمادة الكلاوي، كبير مفتشي آثار ملوي: "إن المقبرة كان فيها أربع آبار جنائزية جرى استكشاف ثلاثٍ منها بواسطة عالِم المصريات چورچ أندرو رايزنر، في حين ظلت البئر الرابعة غير مستكشَفة حتى جاء "ويليامز" وقرر استكشافها، ومن ثم عثر داخلها -إلى جانب التابوت- على أجزاء من الأثاث الجنائزي واللقي الأثرية المصنوعة من الألباستر والفاينس".
ويشير "الكلاوي" -في تصريحات لـ"للعلم"- إلى أن "ويليامز" وفريقه الأثري قاموا بالإسعافات الأولية للأخشاب المتهالكة ثم شرعوا في ترميمها حتى عام 2017؛ حتى يتسنى لهم إجراء الدراسات والأبحاث اللازمة عليها، مؤكدًا أنه جرى العثور على نسخ كثيرة من كتاب الطريقين في مقابر دير البرشا".
يقول "الكلاوي": تقع مقابر دير البرشا الأثرية على بُعد 280 كم جنوب القاهرة على الضفة الشرقية للنيل، واستُخدمت كجبانة خلال عصر الدولة الوسطى (2055-1650 ق.م) لحكام الأشمونين، إذ شيدوا مقابر جرت زخرفتها بإتقان كبير، في حين دُفن كبار الموظفين في مقابر بالقرب من حكامهم، وقد استُخدمت المنطقة فيما بعد خلال العصر القبطي من قِبَل الرهبان.
واسم "الأشمونين" هو تحريف للاسم المصري القديم "خمون" أو مدينة الثُّمانية المقدسة، وكانت عاصمة الإقليم الخامس عشر في مصر العليا القديمة، كما كانت مقرًّا لعبادة إله الحكمة "تحوت"، الممثل على شكل القرد بابون أو طائر أبو منجل، أما الدولة الأشمونية فهي الدولة التاسعة والعشرون في مصر القديمة.
يقول "ويليامز": أصبح الآن لدى الباحثين أدلة جديدة على أن العادات الجنائزية لمصر القديمة تضمنت أحيانًا نصوصًا مصورة كانوا يعتقدون أنها تقود الموتى إلى الحياة الأبدية؛ إذ كان لدى كل متوفى نسخته الخاصة، التي يختلف النص فيها وفقًا لحالته وثروته.
تعاويذ سحرية
تشير أجزاء كتاب "الطريقين" التي عُثر عليها في تابوت عنخ، إلى أن الرحلة الشاقة للوصول إلى الحياة الآخرة ستعوقها النيران والشياطين والأرواح الشريرة التي سيتعين على الشخص التغلُّب عليها، وتضمَّن الكتاب مجموعةً من التعاويذ التي تساعد على صد هذه المخاطر والتغلب عليها.
ووفقًا للباحثين فإن الدليل الأصلي الذي نُسخت منه هذه النصوص يبلغ من العمر 4000 عام على الأقل، مما يجعله -على الأرجح- أقدم كتاب مصور في العالم. ووفق "ويليامز" فإن "هذا الكتاب يسبق الإصدارات المعروفة السابقة له بنحو 40 عامًا، ويحتوي على ما يشبه التعاويذ السحرية التي يتعين على المتوفى قراءتها لحمايته من الأخطار التي قد تواجهه في أثناء رحلته إلى العالم الآخر.
من جهته، يرجح أحمد بدر الدين -أستاذ الآثار المصرية بكلية الآثار جامعة القاهرة- أن "هذه هي أقدم نصوص من كتاب الطريقين يتم العثور عليها، وذلك بسبب متن النصوص التي كانت لا تزال في بداياتها الأولى، والتي شهدت تطورًا في طريقة كتابتها بعد ذلك".
وأوضح "بدر الدين" -في تصريحات لـ"للعلم"- أنه جرى العثور على عدة نسخ من كتاب الطريقين في مقابر "بني حسن" في محافظة المنيا، ومقابر "دير الجبراوي" في أسيوط، ومقابر "الصف" في الأقصر.
تطور النصوص الدينية الجنائزية
يقول "بدر الدين": النصوص المنقوشة على التابوت هي نصوص دينية جنائزية خاصة بالعالم الآخر في مصر القديمة وحياة ما بعد الموت والبعث والخلود، التي احتلت مكانة بارزة في ثقافة الموت عند المصري القديم، وكانت في البداية نصوصًا شفهيةً محفوظة في صدور الكهنة، ثم سُجِّلت في عهد الدولة القديمة (2686 -2181 ق.م) في حجرات الدفن الداخلية والممرات داخل الأهرامات، وعُرفت باسم متون الأهرام، وكانت تقتصر فقط على الملوك والملكات".
وتابع: أقدم متون الأهرام اكتشفها عالِم الآثار الفرنسي جاستون ماسبيرو، داخل هرم الملك ونيس (أوناس)، وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة في عصر الدولة القديمة. ثم تطورت النصوص بعد ذلك، فمع ظهور "العقيدة الأوزيرية" وظهور الإله أوزيريس كمعبود رئيسي للموتى في عصر الدولة الوسطى (2055-1650 ق.م)، ظهرت النصوص التي عُرفت باسم متون التوابيت أو نصوص التوابيت، إذ كانت تدون على التوابيت، وكانت متاحةً للجميع سواء كانوا من النبلاء وكبار رجال الدولة أو من عامة الشعب، وقد سُجِّلت هذه النصوص في البداية بخط هيروغليفي ثم بخط عُرِف بالهيراطيقي، وتنوعت هذه النصوص بين كتاب الطريقين وكتاب البوابات.
يضيف "بدر الدين": بعد ذلك جاءت الدولة الحديثة (1570-1085 ق.م)، التي شهدت تطورًا للنصوص الجنائزية، فظهرت نصوص دينية جديدة مرتبطة بمتون الأهرام ونصوص التوابيت، ولكنها شهدت تطورًا يتَّسق مع تطوُّر العقيدة الدينية ذاتها. وعُرفت هذه النصوص باسم "كتاب الموتى"، ولعل أشهرها كتاب الموتى، الذي سمَّاه المصري القديم "برت-ام-هرو"، أي الخروج في النهار. ثم كتاب "الأمدوات"، المعني بوصف ما هو كائن في العالم الآخر. ثم ظهر كتاب "البقرة السماوية" وكتاب "هلاك البشرية"، وغيرها من النصوص الدينية التي اعتاد المصري القديم -إبان الدولة الحديثة- نقشها على برديات توضع داخل تابوت المتوفى، وأحيانًا داخل لفائف التحنيط أو بجوار التابوت في المقبرة؛ لضمان بلوغ العالم الآخر في سلام.