كتبت : داليا فاروق  

منذ زارها كارل بيهل، في نهاية القرن التاسع عشر، بدأت مقبرة أمنحتب تكشف عن العديد من الأسرار، ومنذ أعيد اكتشافها على يد البعثة الأثرية لجامعة ليبر البلجيكية، لا تزال العديد من أسرارها تتكشف حتى يومنا هذا.
في شتاء عام 1880، قام عالم المصريات السويدي، كارل بيهل، خلال تفقده لجبانة طيبة بالأقصر، بزيارة مقبرة موظف كبير في الإدارة الفرعونية، وكتب عنها وصفًا موجزًا.
وبعد حوالي عشرين عامًا، عندما قام علماء المصريات بعمل أول إحصاء علمي للجبانة، كانت هذه المقبرة الخاصة بـ"أمنحتب" مساعد رئيس الخزانة ونائب حامل أختام في عهد الملك تحتمس الثالث (أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة 1479- 1427)، قد اختفت تمامًا تحت الرمال، وظل العلماء يبحثون عنها دون جدوى.
وفي عام 2009، في أثناء أعمال التنقيب أعلى تل شيخ عبد القرنة، عثرت البعثة البلجيكية التابعة لجامعة ليبر ببروكسل على "المقبرة المفقودة".
يقول لورينت بافاي -رئيس البعثة البلجيكية-: إنه "تم العثور على هذه المقبرة بعد ثلاث سنوات من أعمال التنقيب الأثري، شمال مقبرة سن نفر، حامل الأختام الملكية في عهد الملك تحتمس الثالث".
وكانت المقبرة مغطاة بالكامل بركام منزل ريفي حديث، تم بناؤه في القرن التاسع عشر. وتتكون مقبرة أمنحتب المحفورة في الصخر من مقصورة على هيئة حرف تي (بالإنجليزية)، وصالة كبيرة مقسمة إلى جزئين شمالًا وجنوبًا، عن طريق ستة أعمدة، وكان هناك جزء من الصالة الشمالية تم تدميره منذ القِدَم. وفي وسط المقبرة بئر يبلغ عمقه حوالي 18 مترًا، بالإضافة إلى غرفة دفن جنائزية.
وتتضمن النقوش رسومًا هندسية، يشتهر بها عصر الأسرة الثامنة عشرة، ونصوصًا هيروغليفية، توضح اسم صاحب المقبرة، ومنصبه، وشجرة عائلته. وتشير النقوش إلى أن أمنحتب "هو نائب حامل أختام الملك تحتمس الثالث، وابن أحمس المشرف على ماشية الإله أمون، وزوج ابنة سن نفر، حامل الأختام الملكية".
والأسرة الثامنة عشرة هي بداية تأسيس عصر الإمبراطورية (نحو 1567- 1085 قبل الميلاد) وهو العصر الذي بدأ بطرد الهكسوس من البلاد، وشهد امتداد المملكة حتى بلاد الشام في عصر تحتمس الثالث في النصف الأول من القرن.

أغنى المناطق الأثرية

وعن اختيار جبانة طيبة للتنقيب بها، يقول رئيس البعثة البلجيكية: إن هذه المنطقة الممتدة بطول البر الغربي لنهر النيل، في مواجهة مدينة طيبة القديمة (الأقصر حاليًّا) بصعيد مصر، من أهم المناطق الأثرية وأغناها. فهذه الجبانة تضم مقابرالعديد من فراعنة الدولة الحديثة، بالإضافة إلى المعابد الجنائزية والنصب التذكارية، وقصور ملوك تلك الحقبة الزمنية من تاريخ مصر القديمة، والمنطقة بأكملها جرى تسجيلها موقعًا للتراث العالمي منذ عام 1979.
ويؤكد بافاي أن أعمال البعثة البلجيكية قد بدأت في هذه المنطقة، منذ عام 1999، بدراسة مقبرتين يقعان بجوار مقبرة أمنحتب، وهي مقبرة سن نفر رئيس خزانة الاله آمون، وكذلك مقبرة ابن عمه امينيموب، وهو رئيس وزراء الملك أمنحتب الثاني من الأسرة الثامنة عشرة ( 1427 – 1401) في جنوب تل عبد القرنة.
وقد تم اكتشاف مقبرة سن نفر -المعروفة بسقفها المزين برسومات العنب- بداية القرن العشرين. وتمكنت البعثة البلجيكية على مدار 7 حملات من إعادة اكتشاف مقبرة أمنحتب والتنقيب داخلها، وهو ما مكنهم من معرفة البناء التاريخي للمقبرة، والأغراض التي استُخدمت فيها، منذ بنائها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد وحتى القرن الثامن، حيث أثبتت الوثائق والأحجار التي تم العثور عليها في المقبرة أنها تحولت إلى صومعة راهب قبطي يدعى فرنجية.
جبل عبد القرنة
ويضيف بافاي أن أحد أهم الأسباب لدراسة المقبرتين الملاصقتين لمقبرة أمنحتب، هو معرفة تركيب هذا القطاع من جبل عبد القرنة، الذي يشغله عدد كبير من مقابر الشخصيات العامة ورجال الدولة ورجال الدين إبان حكم تحتمس الثالث وأمنحتب الثاني؛ حيث إن العلاقات المكانية والعلاقات بين الأشخاص واختيار الأماكن والمخطط المعماري للمقابر فى هذا العصر؛ لم تكن يحظى باهتمام علماء الآثار.
ولكن بعد اكتشاف هذه المقبرة ودراسة المقبرتين الملاصقتين لها، يعتقد بافايبافاي أنه حتى حكم الملك تحتمس الثالث فإن الناحية الجنوبية لتل عبد القرنة لم تكن مستغلة، ولم يكن فيها سوى عدد من المقابر يعود إلى عصر الدولة الوسطى. وفي عهد تحتمس الثالث وأمنحتب الثاني تم بناء عدد كبير من المقابر للمسؤولين وعلية القوم بالدولة في هذه المنطقة من التل التي تطل مباشرة على معبدي تحتمس الثالث وأمنحتب الثاني.
الاستخدام الكنسي
وعلى غرار معظم مقابر جبانة طيبة، أكدت الوثائق التي عُثر عليها بالمقبرة من الاستخدام الكنسي لهذا القطاع من المقابر. وبالنسبة لمقبرة أمنحتب فكانت الكنيسة تحتل ربع الفناء الفرعوني من الناحية الشمالية الغربية، وقد خلفت هذه المستويات القبطية من البناء العديد من الشواهد الأثرية والقطع، ولعل أهمها أكثر من 1500 قطعة سيراميك وبقايا عضوية مثل بقايا أخشاب ومئات من الأوستراكا وقطع الفخار التي تدل عن طريق ما تحمله من نقوش وكتابات على استخدام هذه المقبرة من قِبَل الأقباط لقرون طويلة في العصور المتأخرة وحتى بداية الفتح العربي لمصر.
وبحسب لوران بافاي فإن النقوش الموجودة على حوائط المقبرة معظمها مدمر بالكامل، وفيها شروخ تدل على سرقة أجزاء منها في أوائل القرن التاسع عشر، أما النقوش الموجودة على السقف فهي بحالة جيدة.
ومن هذه النقوش نعرف أن والد أمنحتب يُدعى أحمس المسؤول عن حظائر آمون، ووالدته هي نه، أما زوجته فقد كان لها مكانة كبيرة.
وتشير النقوش إلى أنها كانت مغنية آمون وتُدعى رينانا، وهي في الوقت ذاته ابنة سن نفري، رئيس الخزانة في عهد تحتمس الثالث، وهذا ما يفسر أهمية أمنحتب الاجتماعية التي استقاها من هذا الزواج، ويفسر أيضًا اهتمامه بتمجيد زوجته في المقبرة الخاصة به، وهو ما لم يكن معتادًا في هذه الحقبة.
ويشير بافاي إلى أن اسم الإله أمون قد تم محوه أيضًا من النصوص والنقوش الموجودة على الحوائط والجدران خلال حقبة العمارنة، ولم يتم ترميمها لإعادته بعد ذلك.
ومن الوثائق الخاصة بمقبرة أمنحتب الثانى، نجد حجرًا كبيرًا من الجرانيت الوردي يحمل اسم نائب رئيس الخزانة، وكان يُعرض في معبد الكرنك، ولكن البعثة البلجيكية نقلته إلى مكانه الأصلي بالمقبرة ووُضع في الفناء الخارجي.
كما تم اكتشاف تمثال صغير لأمنحتب في مقبرة حماه سن نفري، وقامت باكتشافه بعثة أثرية تابعة لجامعة كمبريدج بإنجلترا عام 1994، وتم عرضه بالمتحف المصري بالتحرير، وهو يصور أمنحتب جالسًا ويده اليمنى ممدودة إلى جانبه، وفي يده اليسرى زهرة اللوتس يضمها إلى صدره مرتديًا ثوبًا أبيض.
ومثلما تم استخدام المقبرة من قبل كصومعة وكنيسة لراهب قبطي، فإن علماء الآثار يعتقدون أن مقبرة أمنحتب قد أعيد استخدامها مرة أخرى كمقبرة، لكن لمسؤول كبير في عصر متأخر.
هرم من الطوب اللبِن
وبحسب البعثة البلجيكية فقد تم خلال المواسم الأخيرة من الحفائر بهذه المقبرة الكشف عن هرم من الطوب اللبن في فناء المقبرة، يبلغ ارتفاعه 17 مترًا، وعرضه 12 مترًا، ويرجع إلى عصر الرعامسة، أي الأسرة التاسعة عشرة أو العشرين، مما يعني أن المقبرة قد أعيد استخدامها في عصر متأخر.
وبحسب بافاي فإن هذه المقبرة قد تكون لوزير أو شخصية كبيرة من هذا العصر، واختار بناء مقبرته في هذا المكان تحديدًا حتى يطل على معبد الرامسيوم، حيث تقع هذه المقبرة على نفس محور معبد الرامسيوم.
ويؤكد رئيس البعثة البلجيكية أن مقبرة أمنحتب بجبانة طيبة ما زالت تبوح بأسرارها حتى اليوم؛ إذ تواصل البعثة أعمال التنقيب والكشف والترميم بهذه المقبرة حتى العام القادم، بهدف استكمال البناء التاريخي لهذه المقبرة منذ أن بناها أمنحتب في القرن الخامس عشر قبل الميلاد وأعيد استخدامها عدة مرات.